القول السلام !
سلمان بن فهد العودة
مما وصف الله تعالى به عباد الرحمن أنهم يقولون : (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما). (الفرقان: من الآية 74).
وهذه صفة للمنتخبين المنتجبين من عباد الله الصالحين الذي وصفهم أول ما وصفهم بأنهم يمشون على الأرض هونا، فلا طيش ولا إزعاج ولا استكبار، نفوس مطمئنة، وعادات حسنة في المشي وفي قيادة المركبة أو الدابة، وفي سائر التعاملات والمسالك.
(وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما). (الفرقان: من الآية63)، فليسوا طرفا في المجادلات والمنازعات الجاهلة التي تنتصر فيها الناس لأنفسهم المريضة التي تأبى إلا إظهار التفوق وأن تكون لها الكلمة الأخيرة.
وحين يقولون «سلاما» فهم لا يبكتون خصومهم أو يظهرون أنهم أفضل منهم وأحسن حالا، كما يقع لقوم يجرون اللفظ الشرعي على ألسنتهم ويغفلون عن حقيقته
ومقصده، فإذا ظنوا أن أحدا تجاوز عليهم أو اعتدى أشاحوا عنه وصاحوا :
ــ سلاما .. سلاما ..
وهم يقصدون بذلك أن يقولوا لخصومهم: أنتم من الجاهلين ونحن من عباد الله الذين يمشون على الأرض هونا !
فليس هذا من التفوق الأخلاقي الحقيقي في شيء، بل هو تمثيل وادعاء.
والآية تشير إلى « القول السلام» وليس مجرد اللفظ، وهذا يشمل الاستغفار لهم، والدعاء والعفو والصلح والابتسام ومقابلة السيئة بالحسنة، ويشمل السكوت أحيانا..
إنه ليس من السلام في شيء أن يجهل علي إنسان فأقول :
إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت
فـإن كلمتـه فـرجت عنـه ... وإن خلـيتـه كـمـدا يمـوت
فأنا هنا لم أسكت، ولم أجاز السيئة بحسنة، بل بسيئة مثلها؛ إذ وصفته بالسفه وكفى بهذا انتصارا، أو أن أقول:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت : لا يعنيني !
فها قد وصفته باللئيم، ووصفت فعله بالسب، وادخرت لنفسي موقعا متفوقا بمجرد أن لدي ثروة لغوية من هذه الألفاظ والأبيات التي لا يحسنها !
إن تجرع الغيظ والمرارة والتدريب على البشاشة والصفح والعفو والإعراض والنسيان هو المقصد الأخلاقي الأعظم، وليس توظيف الألفاظ والنصوص لتحقيق المزيد من المكاسب والانتصارات في معركتي مع الآخر !
ولعله من هذا الباب الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين». وفي رواية لهما: «إني امرؤ صائم»..
وقد تكلم أهل العلم هل ينطق بها بلسانه، أو المعنى أن يقوله في نفسه؛ ولهذا التردد أتى البخاري في ترجمته بالاستفهام؛ فقال: « باب هل يقول إني صائم إذا شتم» ؟، وقد جزم الإمام المتولي الشافعي بأن يقول ذلك في نفسه ونقله الرافعي عن الأئمة ..
والأقرب والله أعلم أن المقصود مخاطبة نفسه أولا، سواء كان الصوم فرضا أو نفلا، لأن الصوم يردع صاحبه عن الفحشاء و « من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه »، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة.
فمقصد العبادة هو التربية الأخلاقية، وحفظ البيئة الاجتماعية من التشاتم والتساب وتبادل الألفاظ الرديئة !
إن الذي نطق بلسانه قد يغلبه الموقف، ويحمله الاندفاع أن يتكلم بكلام يندم عليه، ورب كلمة تقول لصاحبها دعني، ولعل الكلام كثيرا ما يكون أشد من وقع السيف، والكلمة مثل الرصاصة إذا خرجت لا تعود، وإذا خرجت فربما جرحت أو قتلت أو أصمت أو أدمت !
على أنني أتعجب أكثر من كلمات مسطورة مكتوبة؛ يسع الإنسان أن يراجعها ويعيد النظر فيها، والكتابة غالبا أثبت من الشفاهة والكلام المرتجل، وتجد في هذا المكتوب من الاستعجال والقسوة ما يتم المقصود بدونه، مما يدل على أن المشكلة عند بعض الكاتبين ليست مجرد غضبة عابرة تنتهي في حينها، بل هي موجدة نفسية قوية لا تزول بين عشية وضحاها، وأحيانا هي معنى سلبي راسخ في سويداء القلب يمرض صاحبه قبل الآخرين.
إن الكتابة أداة من أدوات الإصلاح الاجتماعي والتربية الأخلاقية وحري بمن أمسك بالقلم (أو الكيبورد كما يسمون لوحة المفاتيح) أن يشعر بالأمانة، ونهيه النفس عن دوافعها المريضة ومقاصدها الشخصية وأغراضها الذاتية، وصدق الله إذ يقول: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). (ق:18).